في شوارع اليمن وأسواقه الشعبية، لا تقتصر تجربة التسوّق على البيع والشراء فحسب، بل تمتد إلى تذوق شكل من أشكال الأدب الشعبي الذي ينبض بالحياة ويُروى شفهياً على لسان الباعة.
تلك النداءات التي يطلقها البائعون لترويج بضائعهم تتجاوز وظيفتها التسويقية، لتغدو تعبيراً حيّاً عن ثقافة المجتمع وبيئته ولغته اليومية.
تتميّز هذه النداءات بصيغة تشبه الرجز، وتُطْلق بصوت عالٍ يتضمن السجع، التكرار، والازدواجية، مستهدفة جذب انتباه الزبائن وترغيبهم في الشراء، وهي أقرب ما تكون إلى "فن تلقائي" لا يتبع قواعد شعرية محددة، لكنه يعكس نبض الشارع اليمني بلغته ومفرداته الخاصة، وبساطة تركيبه.
وكغيرها من أشكال الأدب الشعبي، فإن نداءات الباعة مجهولة المؤلف وتنتقل عبر الأجيال شفاهياً، حاملة في طياتها عناصر التودد والدعاء والطرافة. ومن بين هذه النداءات، ما يستحضر روح الدعاء مثل:
"يا عظيم العفو والرجاء، صاحب البيض أجاء"،
أو ما يمزج الدعابة بالعرض مثل: "عتر مبسبس، على خمسين وبس، محوج مقرطس، تأكل لما تقول بس، عتر مع الشطة، بخمسين ريال عرطة، يخرج البيس من الشنطة".
وتنتشر هذه النداءات بكثرة في الأسواق، وغالباً ما يرددها الأطفال ممن يبيعون السلع الخفيفة كـ"الدوم"، حيث يطلقون عبارات تشبه الأناشيد، تقول إحداها:
"اليوم يا شجرة الدوم، دوم يقيمك من النوم، يا ليتني باب بيتك مشتري الدوم، أبصر حبيبك قومته من النوم، دوم بالعسل، يبعد لك الكسل، دوم يبعد لك النوم، دوم طري من اليوم، اليوم يا زبائن اليوم، دوم شهي الأكلات، يرجّع العجائز بنات".
وفي صنعاء، تطور هذا الأسلوب ليأخذ طابعاً شبه مسرحي من خلال شخصية "المُحرِّج"، وهو شخص مختص بالترويج للسلع في السوق باستخدام نداءات درامية تخلط الدعاء بالحزن والمبالغة، مثل:
"يا غارتاه غيروا عليّ، يا ناس يا عالم، عندنا كذا وكذا، يا علياه يا محمداه، يا دولتاه، التاجر فلّس، التاجر خِسِر، التاجر حرقت بيته، بعنا بنصف القيمة".
وإذا لم يتفاعل الزبائن، يستخدم المُحرّج تعابير استنكارية حزينة، قائلاً:
"يا عيباه يا عيباه"،
ويضرب على رأسه مردداً:
"يا باطلي باطلاه"،
في محاكاة درامية تُضفي على السوق طابعاً تمثيلياً فريداً.
وتبرز نداءات الباعة بشكل خاص في عدد من الأسواق الشعبية التاريخية، التي ما تزال تحتفظ بطابعها التراثي ومكانتها في الحياة اليومية لليمنيين.
يأتي في مقدمتها سوق الملح في صنعاء القديمة، الذي يُعد من أعرق الأسواق في الجزيرة العربية، ويشتهر بتنوع بضائعه من البهارات والعطور إلى المصنوعات اليدوية، وسط أجواء تملؤها النداءات التي يرددها الباعة بأساليبهم الخاصة.
وفي مدينة تعز، يُعتبر سوق الزمر من أكثر الأسواق ازدحامًا، حيث تختلط نداءات الباعة بأصوات المدينة وتنعكس في عباراتهم اليومية، وخصوصًا مع انتشار الباعة المتجولين في أزقة المدينة القديمة.
أما في حضرموت، فيُعرف سوق شبام بطابعه التقليدي، وهو يعجّ بالمنتجات المحلية والباعة الذين ينادون على بضاعتهم بلغة حضرمية مميزة تُضفي على السوق طابعه الخاص.
تعكس هذه الظاهرة الشعبية جانبًا من التفاعل الثقافي والاجتماعي في اليمن، حيث تختلط الحياة اليومية بالفن واللغة، وتتحول الأسواق إلى مساحات للعرض الصوتي الإبداعي، الذي يعكس ذكاء الباعة وارتباطهم الوثيق بمجتمعهم.
في زمن تتقلص فيه المساحات الثقافية التقليدية، تظل نداءات الباعة اليمنيين شاهداً حيًّا على حيوية التراث الشفهي، ودوره في حفظ نبض الناس وحكاياتهم اليومية.