لا تنسوا أن المهاجرين بمختلف مواقعهم وتسمياتهم يعيشون بكل مشاعرهم في الداخل ويقاسمون أهلهم الهم اليومي.. وفوق ذلك وتشهد الطوابير أمام محلات الصرافة أن المغترب اليمني هو الشريان الذي يمد الداخل بالحياة، وأن بقاءه خارج البلد (لأي سبب) لا يسقط عنه الحق في لعن تفاهتكم وكشف دأبكم وأنتم تبيعون الوهم المغلف بجرعة زائدة من الوطنية.
يمكن لمن ينظر من بعيد أن يرى الصورة كاملة، ستكون عيناه قادرتين على تجاوز لافتة معلقة بالشارع عليها صورة الرجل الذي بحجم الوطن، وفي الحقيقة لم يعد في المشهد رجل بحجم وطن ولا حتى بحجم قرية.
فالموجودون وحسب ما ينطقون بعظمة ألسنتهم مجرد شقاة ينتظرون التوجيهات ما الذي يجب عليهم عمله بالضبط "اليوم نحجن وبكرة معنا صبة"، حسب الموسم والطقس ومن يحدد الجدول هو الراجل الكبير صاحب المزرعة الذي يراه الجميع ولا يراه أحد. يمكن لك من بعيد أن ترى معلماً يقلب كفيه وهو ينظر إلى سبعة أطفال أمامه تبدو الفاقة في عيونهم وكلهم وضعت المجاعة وسوء التغذية بصماتها على ملامحهم وبنيتهم الجسدية لأنه لم يتلق راتبه منذ ثمان سنوات، وقد يئس منكم جميعاً، ولا تعنيه كل هرطقاتكم.
يرى فتيان صغار فقدوا طريقهم إلى المدرسة وذهبوا ليموتوا على الحدود وهم يتهربون بحثاً عن مخرج من الجحيم الذي صنعه الحوثي وكنتم سبباً في استمراره حتى اليوم.
ما تعمله أنت وأنت في الداخل، والخطاب هنا للمشتغلين في الإعلام، يعمله أو/ يكمله غيرك على بعد آلاف الكيلومترات من خلف شاشة جهازه المحمول ربما مع فارق أن الجهد أقل فلا يبدد وقته للبحث عن إنترنت ولا كهرباء ولا يستنزف نفسه ليقف في طوابير الغاز والبترول والماء.
كما أن ذلك البعد يجعل صاحبه متخففاً فلا يضطر لتلميع فاسد أو التغطية على خنبقات "هبيلة". تمنحك الجغرافيا حيزاً لتخرج عن الجوقة، لتقول ما يعجز عن قوله المخنوقون بالواقع المرير، فالجميع تقريباً يدرك الحقيقة المرة لكن ليس الجميع يستطيع التعبير عنها.
ولا نريد أن نذكر أن كثيراً ممن تعيرونهم اليوم بالإقامة خارج البلد قد غادروا يوم كان كثير منكم يحرضون على الصحفيين والنشطاء ويحثون ربهم الجديد على وضعهم دروعاً بشرية في المواقع المستهدفة باعتبارهم عملاء وخونة. وكان اللطفاء منكم يقولون يكفيهم الحبس والتأديب فهم أولاد ضالون.
اليوم وقد صار الوطن سجناً كبيراً ما عدا للمشمولين بالنعمة، نسي صديقي داخل مدينة تعز عمله وهو يقضي معظم وقته وتحتشد معه العائلة للبحث عن خزان ماء، نسوا أيضاً العيد وتجهيزاته وبات كل همهم كيف يشربون ويغتسلون، هذا ما أنجزه "رجال بحجم الوطن" يصرفون الوعود منذ عشر سنوات وفي النهاية خرجوا ليقولوا "الموضوع مش بيدنا" يالها من بطولة خارقة!! للأسف نغطي أخبار الإنتحار بشكل يومي على امتداد الوطن المنكوب. ونرى المجاعة والأوبئة وانعدام الخدمات ومقومات الحياة تلتهم أكباد الناس. وانهيار التعليم وغياب الأفق يمنح الحوثي كل يوم أعداداً جديدة من اليائسين المحبطين الذين يلتقطهم ويجهزهم ليكونوا حطباً لمعاركه القادمة التي لا يجيد غيرها. ونرى وطناً يتشرذم وأمراء حرب جدد وجيوشاً تتشكل في الصحاري والجبال بدون هوية وبدون راية.
وهذا بالطبع ما أنتجه طول أمد الحرب بدون أفق، وتحويل البلد إلى ساحة لحروب الآخرين وقد نسينا معركتنا الأساسية. البلاد تضيع والسياسيون، والقادة "بحجم الوطن" يتفرجون ويضجون في الهامش. كان الجميع يصرخ أيام هادي لأن الرجل ظل نائماً في الفندق لم يفعل شيئاً، لم يتحرك.
اليوم هي ذات الحالة بل تعدد هادي وصار اليقظون/ النائمون ثمانية هم أيضاً يغادرون الفندق أحياناً لكن لا يفعلون شيئاً من أجل استعادة البلاد. ولا من أجل إنقاذ الشعب من الجوع. بل يغادرون حتى يتعرضوا للشمس حماية لأجسادهم من التعفن. توغل الخارج وتعقد الواقع أكثر حتى صار أكبر منكم جميعاً كما تقولون في تصريحاتكم الصريحة والشفافة جداً، صحيح لكن هذا ليس سبباً لموقفكم العاجز اليوم بل هو نتيجة، هو محصلة أنكم سلمتم أمركم، قلتم للغريب نحن الضيوف وأنت رب المنزل، ووقعتم ضمنياً على توكيل ولزمتم مقاعد المتفرجين، واقتنعتم أن تتحولوا باتجاه آخر لتحدثوا ضجيجاً وتتحركوا خارج مسار المعركة الحقيقية لتشغلوا الناس وتبيعوا الوهم.
حدث ذلك كله بسبب الفراغ الذي أنتجته زحمتكم التي لا يمكن قراءتها إلا على طريقة "إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحداً". يرتب العالم أوراقه وأنتم جزء من هذه الأوراق، تُرتَّبون لا ترتَّبون شيئاً سوى تسمين جيوش من المادحين والملمعين. وستبقون على هذه الحال حتى تأتيكم تسوية مطبوخة جاهزة وهي في الحقيقة وثيقة تسليم لا شيء سواها، وستخرج ذات الجوقة تتغزل بالمضامين الإستراتيجية للتسوية ويشنون هجومهم على المهاجرين الذين ينتقدونها من خارج البلد.
نتوقف عن قول الحقيقة القاسية أحياناً حفاظاً على معنويات الناس وتماسك الحاضنة الشعبية الرافضة للحوثي والمنتظرة للفرج فتخرجون أنتم بهرتلات وخنبقات تفعل أكثر مما يمكن أن يفعله حتى خصومكم.
وسيبقى أملنا الوحيد هو أن اليمن ولادة وقادرة على رميكم إلى سلة المهملات وفرز قيادات غير معطوبة وسنردد مع شاعرنا أنس الحجري: لا تحسبِ الأرضَ عن إنجابها عقرت من كل صخر سيولد للفدا جبلُ فالغصن يُنبت غصناً حين نقطعهُ والليل ينجب صبحاً حين يكتملُ
وقد آمن أبو الأحرار الزبيري بالشعب "حتى وقد رآه الورا جثة هامدة".