في يمن بات فيه تعليم القرآن الكريم تهمة، وحفظ كتاب الله جريمة، نجد أنفسنا أمام مشهد عبثي يصعب حتى على أدباء السريالية تصوره. بل لم نعد بحاجة إلى جورج أورويل ليكتب لنا "1984" جديدة بنسخة يمنية، فنحن نعيشها: حيث القهر فريضة، والجهل نعمة، والطغيان برنامج حكومي.
الدكتور محمد قايد عقلان، مدير دار القرآن الكريم في منطقة اليهاري بمحافظة إب، اختطفته مليشيا الحوثي وكأنها تعتقل إرهابيا لا رجل علم يعلم كتاب الله. التهمة؟ لم تصدر لائحة اتهام بعد- لكن يبدو أن،"الاشتباه في التربية القرآنية السُّنية" بات يكفي، في جمهورية الصرخة، لتُسحب من منزلك فجرا ويُقفل على مصحفك بالسلاسل.
المفارقة المروعة؟ أن هذه حادثة اعتقال حفيد الفقيه سعيد الثائر الجليل، الذي قاد ثورة ضد الطاغوت الإمام الهادي محمد المتوكل واغتيل عام 1840م ، تأتي بعد يوم واحد من تصفية الشيخ صالح حنتوس في محافظة ريمة. فيما لم يكن الشيخ يحمل سلاحا، بل كان يحمل آيةً، ويُخرج من حلقات العلم رجالا لا مليشيات. والرد؟ اعتقال غاشم ورصاصة في الرأس من سلطة لا تحتمل من يخالفها حتى في التفسير، أو يختم الفاتحة بصوت لا يمر عبر نبرة "الولاية".!
ولكن أي جريمة أعظم من أن يُضطهد القرآن في عقر داره؟ وأي بلد هذا الذي صار فيه تدريس الدين تطرفاً، بينما لا تُصنف جريمة الاختطاف والقتل إلا "حوادث أمنية"؟
طبعا ليست المسألة قضية فردية، بل حملة ممنهجة.
فخلال الأسبوعين الأخيرين، شنت المليشيا حملة اعتقالات شملت تربويين وأطباء وأكاديميين: من د. أحمد ياسين إلى ثائر الدعيس، ونبيل اليفرسي، وصادق اليوسفي، وغيرهم. فما القاسم المشترك؟ لا علاقة لهم بالسلاح، لكنهم يحملون ما هو أخطر في نظر المليشيا: العقل.
نعم: الحوث...يون، أو "أنصار الله" كما يسمون أنفسهم في خطابهم الرسمي، تحولوا إلى منظومة تبتلع الدولة وتُهندِس المجتمع قسراً. من دورات التلقين الإجباري في كل مؤسسات الدولة إلى تطهير مؤسسات التعليم من "غير الموالين"، وصولاً إلى صياغة وعي مجتمعي يركز على "الهوية الإيمانية" بصيغة الجماعة الواحدة والزعيم الأوحد.!
بمعنى أدق فإنك أيها اليمني، إن لم تكن شيعيا صامتا، فكن سنيا ذليلا . إذ لا مكان هنا لأهل "الوسطية"، ولا لمذهب "لا إكراه في الدين". حتى "الله أكبر" لم تسلم، صارت شعارا على الكتف بدل أن تكون نورا في القلوب.!
وفي هذه الجمهورية الكهنوتية الجديدة، أصبح الاضطهاد طقسا. نعم: هناك "تشييع قسري" للمجتمع، ليس دينيا فحسب، بل فكريا وثقافيا وسياسيا. وبالمفتوح .. صار أهل السنة - وهم الأغلبية - يعاملون كأقلية متمردة يجب إعادة تأهيلها… في أفضل الأحوال، أو سحقها في أسوأها.
فمن يجرؤ اليوم على رفض "الدورة الثقافية" الح..وثية كل أربعاء؟ من يعارض "الولاء لعبد الملك الحوثي"علنا؟ أي إن لم تذهب طوعا، تُرسل قسرا إلى معسكرات "تأهيل العقيدة" التي تشبه جلسات غسيل الدماغ الجماعي.
أما عن المنظمات الدولية؟ فعذرا، يبدو أن شجرة "التمويل" لا تثمر إلا في القضايا التي تُرضي الممول.
لكن..الصمت المطبق، هنا، أكثر من تواطؤ، إنه تخلٍ أخلاقي صارخ عن مسؤولية لا تُعفى منها الأمم المتحدة ولا المجتمع الدولي.
لذلك لا تخطئون الظن. !! ما يجري ليس "صراعا طائفيا" كما يحب البعض تبسيطه،! بل تصفية منظمة لهوية مجتمع بأكمله. صراع على من يملك تفسير السماء ومن يحتكر تمثيلها على الأرض.
على إن الح..وثي لم يأتِ ليبني دولة، بل جاء ليهدم ما تبقى من نسيجنا، ديننا، وعقلنا الجمعي.
ولذلك حين يعتقلون قارئ قرآن، فإنهم لا يستهدفون شخصا، بل يرسلون رسالة: "لن نسمح لهذا النور أن يظل مشتعلا… إلا إن كان يمر عبر أعيننا".!
على إننا في لحظة تاريخية لا تحتمل الصمت. و من بقي لديه ضمير، فليصرخ. ومن بقيت لديه غيرة، فليكتب، وليوثق، وليفضح.
فالقرآن، الذي لم تطفئ نوره نار الفرس والروم، لن تطفئه حُجرة تحقيق في سجن ح...وثي. لكن القهر إذا لم يُواجه، تمدد. وإذا لم تُكسر هذه الحلقة من الذل… فسنقرأ القرآن في السر، كما يفعل المظلومون في البلاد المحتلة.
بقي أن أقول: بالفم المليان
إذا كنتم تؤمنون بالإمامة وأنكم وحدكم على الحق، فهذا شأنكم، أما أن تُلزموا الناس بحبكم أو طاعتكم بالقوة، فتلك ليست دعوة دينية بل استعلاء واستبداد.
نعم.. لسنا بحاجة لتذكيركم أن القلوب لا تُفتح بالسلاح، ولا تُساق بالمذهب.
نحن شافعية، نؤمن بحرية المعتقد، ونحترم اختلاف الفكر، لكننا لن نقبل بأن يتحول الخلاف إلى ترهيب، أو الدين إلى سلطة قمع. بل لا تطلبوا منا الحب وأنتم تزرعون الخوف، ولا تحدثونا عن العدل وأنتم تهدمونه في كل بيت نخالفكم فيه. ثم إن المحبة لا تُؤخذ غصبا، والإيمان لا يفرض تحت فوهات البنادق.!